خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م : الصانع المتقن ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م : الصانع المتقن ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ: 12 شوال 1443هـ – الموافق 13 مايو 2022م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الصانع المتقن.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الصانع المتقن ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 13 مايو 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الصانع المتقن ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة: الصانع المتقن، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
(1) حثَّ الإسلامُ على الصناعةِ بشتَّى أنواعِهَا .
(2) نماذجٌ تتجلَّى فيها الصناعةُ البشريةُ سطرَهَا القرآنُ الكريمُ .
(3) أهمُّ الضوابطِ التي تجبُ مراعاتُهَا في حرفةِ الصناعةِ .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة الصانع المتقن ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبةٌ بعنوان «الصانعُ المتقنُ» بتاريخ 12 شوال 1443 ه = الموافق 13 مايو 2022 م
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىُء مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمَّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة
(1) حثَّ الإسلامُ على الصناعةِ بشتَّى أنواعِهَا:
لم يخلقْ اللهُ الإنسانَ على هذه البسيطةِ عبثًا، وإنَّما خلقَهُ لحكمةٍ جليلةٍ وفائدةٍ عظيمةٍ ألَا وهي عمارةُ الكونِ فقالَ تعالى: ﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ ولذَا حمَّلَهُ مسؤوليةَ الحفاظِ على خيراتِهَا، واستثمارِ غلاتِهَا بعدَ أنْ زودَهُ بالإمدادتِ الماديةِ مِن خلقِ المواردِ الطبيعيةِ، وجعلَ لهُ الأرضَ ذلولًا سهلةً ليتمكنَ مِن السيطرةِ عليهَا كمَا قالَ ربُّنَا: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، كما سخرَ جميعَ الموجوادتِ مِن حيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وأفلاكٍ لخدمتِهِ وإعانتِهِ، ثم وهبَهُ العقلَ والمؤهلاتِ الفكريةَ التي بها يسثمرُ تلك النعمَ ويصرفُهَا على وجهِهَا الصحيحِ والقويمِ .
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة
(2) نماذجٌ تتجلَّى فيها الصناعةُ البشريةُ سطرَهَا القرآنُ الكريمُ:
المستقرءُ لنصوصِ الكتابِ العزيزِ يجدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد الهَمَ بعضَ الرسلِ والأنبياءِ صناعاتٍ وحرفًا متنوعةً فهذا سيدُنَا نوحٌ عليهِ السلامُ قد أمرَهُ بصنعِ سفينةٍ في زمنٍ قلتْ فيهِ الاختراعاتُ وندرتْ فيهِ الابتكاراتُ، فحينمَا أرادَ اللهُ أنْ يُهلكَ قومَهُ أمرَهُ فقالَ تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾، وبدأَ نوحٌ بصناعةِ سفينةٍ عظيمةٍ لا يُشبهُهَا فلكٌ في العالمِ؛ لأنَّهُ سيحملُ فيهِ مِن كلِّ صنفٍ مِن الحيواناتِ زوجينِ اثنينِ، وكان في قدرةِ اللهِ أنْ يُنزلَ تلك السفينةَ مِن السماءِ، أو يرفعَ بنوحٍ وأتباعهِ الأرضَ فلا يصلُ الماءُ إليهِم، ولكنَّ اللهَ أمرَهُ أنْ يضربَ بمسمارهِ على أخشابهِ؛ ليبنِيَ أعظمَ فُلكٍ في الدنيَا ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، وهذا الأمرُ يشملُ جميعَ البشرِ إلى يومِ القيامةِ، فهم مأمورونَ بشقِّ السفنِ والتفننِ في اتقانِهَا واختراعِ كلِّ ما هو جديدٌ في عالمِ هذه الصناعةِ بمَا يتناسبُ مع عصرِهِم ومكانِهِم.
وهذا داودُ عليه السلامُ يمتنُّ اللهُ عليهِ بتعليمِهِ مبادئَ الصناعةِ العسكريةِ، فكانَ يستخدمُ الحديدَ في مباشرةِ صناعةِ الدروعِ والسيوفِ وآلالاتِ الحربِ المختلفةِ التي تقِي المحاربَ الأخطارَ، فكانَ لهُ قدمُ السبقِ في ذلك، وكانَ أولَ مَن سردَهَا وحلَّقَهَا كما قالَ ربُّنَا: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وقالَ أيضًا:﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾، وكان إذا أتمَّ صنعَ درعٍ باعَهَا، فتصدقَ بثلثِهَا، واشترَى بثلثِهَا ما يكفيهِ وعيالهُ، وأمسكَ الثلثَ يتصدقُ بهِ يومًا بيومٍ إلى أنْ يعملَ غيرَهَا، فهو عليه السلامُ يقتاتُ مِن تلك الصناعةِ مع أنَّ اللهَ جمعَ لهُ بينَ المُلكِ والنبوةِ فعن أبي هريرةَ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم:«أنَّ داودَ النبيَّ عليه السلامُ كان لا يأكلُ إلّا مِن عملِ يدهِ» (البخاري)، قال ابنُ حجرٍ: «وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ بِالذِّكْرِ أَنَّ اقْتِصَارَهُ فِي أَكْلِهِ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا ابْتَغَى الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ؛ وَلِهَذَا أَوْرَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّتَهُ فِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ خَيْرَ الْكَسْبِ عَمَلُ الْيَدِ، وَهَذَا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَدْحُهُ وَتَحْسِينُهُ» ا.هـ (فتح الباري 4/ 306) .
وهذا رجلٌ مِن الصالحين مكَّنَ اللهُ لهُ في الأرضِ غربِهَا وشرقِهَا، فنشرَ فيها السلامَ، وكان مثالًا في تفوقِ الصناعةِ، إذ تمكنَ من بناءِ سدٍّ من قطعِ الحديدِ، يحولُ به بينَ قبائلِ يأجوجَ ومأجوج، فكان سدًّا عظيمًا لم يشهدْ لهُ التاريخُ مثيلًا، قال اللهُ تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾
عندما نستعرضُ هذه الأخبارَ القرآنيةَ نحسبُ وكأنَّنَا نتحدثُ عن حضارةٍ في زمانِنَا هذا! ولا غروَ في ذلك، فالقرآنُ كتابُ دُنيَا ودَين، وكان سيدُنَا صلَّى اللهُ عليه وسلم خيرَ مَن طبقَ ذلك عمليًّا على أرضِ الواقعِ فحينمَا رأى شاةً ميتةً – وكان هذا المنظرُ خليقًا أنْ يثيرَ فيه نوازعَ الزهدِ، لكنَّهُ أثارَ فيهِ نوازعَ الأملِ – التفتَ إلى أصحابهِ وهم يتقزَّزُون مِن المنظرِ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟» فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» (مسلم) .
إنَّ اتخاذَ حرفةٍ أو صنعةٍ يحتاجُ أولاً إلى حسنِ التوكلِ على اللهِ ثم الأخذِ بالأسبابِ التي أمرَ الشارعُ الحكيمُ بمباشرَتِهَا فعن عُمَرَ قال: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» (ابن ماجه، وإسناده صحيح)، أمَّا أنْ ينامَ الإنسانُ وينظرَ فرجَ السماءِ فهذا لا يقبلهُ دينٌ ولا عقلٌ ولا عرفٌ يقولُ سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ: “إنِّي لأرى الرجلَ فيعجبُنِي، فأقولُ: له حرفةٌ؟ فإنْ قالُوا: لا، سقطَ مِن عينِي” (كنز العمال) .
يقولُ القرطبيُّ عندَ تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: ﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾: (هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي اتِّخَاذِ الصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ، لَا قَوْلُ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلضُّعَفَاءِ، فَالسَّبَبُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ فَمَنْ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَسَبَ مَنْ ذَكَرْنَا إِلَى الضَّعْفِ وَعَدَمِ الْمِنَّةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَكَانَ أَيْضًا يَصْنَعُ الْخُوصَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَنُوحٌ نَجَّارًا وَلُقْمَانُ خَيَّاطًا، وَطَالُوتُ دَبَّاغًا، وَقِيلَ: سَقَّاءً، فَالصَّنْعَةُ يَكُفُّ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ الضَّرَرَ وَالْبَأْسَ. وَفِي الْحَدِيثِ:”إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ الضَّعِيفَ الْمُتَعَفِّفَ وَيُبْغِضُ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ”) أ.ه (الجامع لأحكام القرآن 11/ 321) .
كما حفلَ القرآنُ بذكرِ نماذجَ وأمثلةٍ لصناعةٍ متعددةٍ كصناعةِ المنسوجاتِ وصناعةِ الموادِ الغذائيةِ والدوائيةِ وصناعةِ الأسلحةِ والمعداتِ الثقيلةِ، وصناعةِ الغوصِ واستخراجِ اللؤلؤِ والمرجانِ، وصناعةِ الزجاجِ …الخ، وتنفيذًا للأوامرِ الربانيةِ والأقوالِ النبويةِ برعَ مِن الصحابةِ صناعٌ مهرةٌ اشتهرُوا بالعديدِ مِن الصناعاتِ، فكان خبابُ بنُ الأرت حدادًا يصنعُ السيوفَ، وكان سلمانُ الفارسيُّ يعملُ في صناعةِ نسيجِ السِّلالِ، وكان سعدُ بنُ أبي وقاصٍ يبرِي النبلَ، وكان عثمانُ بنُ طلحةَ خياطًا، وعني سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ بالتصنيعِ الحربِي، حتى كان بحوزةِ الجيشِ الذي فتحَ فارسَ عشرونَ منجنيقًا، على أنَّ أولَ منجنيقٍ تمَّ تصنيعُهُ في الإسلامِ أثناءَ حصارَ الطائفِ، واشتهرتْ صناعةُ السفنِ في عهدِ سيدِنَا عثمانَ بنِ عفانَ، إذ كان أولَ مَن أمرَ بتشييدِ دارٍ لصناعتِهَا، حتى كانتْ نواةَ الأسطولِ الإسلاميِّ في الفتوحاتِ البحريةِ.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة
(3) أهمُّ الضوابطِ التي تجبُ مراعاتُهَا في حرفةِ الصناعةِ:
وضعَ دينُنَا عدةَ معاييرَ وآلياتٍ لضبطِ مهنةِ الصناعةِ حتى تُؤتِي ثمارَهَا على الوجهِ الأكملِ مِن ذلك:
*التخطيطُ المسبقُ والجيدُ للمشروعِ: يجبُ على المُصنِّعِ أنْ يخططَ جيدًا للمشوعِ الذي يقدمُ عليه، ويرتبُ وضعَهُ المالِي فيعرفُ ما لهُ، وما عليهِ، وكم سينفقُ على هذا المشروعِ؟ وما هي الثمرةُ المرجوةُ منهُ؟ وغيرِ ذلك مِن التفاصيلِ الدقيقةِ التي توضحُ لهُ الأمورَ، وتساعدُهُ على تجاوزِ العقباتِ، ونجاحِ المشروعِ، أمَّا العجلةُ في الأمرِ والعشوائيةُ فليسَ بمحمودٍ على الإطلاقِ، وهذا منهجٌ نبويٌّ حريٌّ بنَا السيرَ عليهِ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرَ مَعَاذِيرَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَمْدِ» (أبو يعلى)، ولله در الشاعر:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجِتِه …. وَقَد يَكُوُنُ مَعَ المُستَعجِل الزَّلَلُ
*التبكيرُ في أداءِ الحرفةِ: لقد جعلَ اللهُ النهارَ معاشًا وحركةً، فإذا استقبلَهُ الإنسانُ مِن أولهِ بالجدِّ والتعبِ صارَ في ذلك بركة، قال بعضُ العلماءِ كلامًا لطيفًا في ذلك: «أولُ اليومِ شبابُهُ، وآخرُ اليومِ شيخوختُهُ، ومن شبَّ على شيءٍ شابَ عليهِ»، وهذا مُشَاهدٌ وواقعٌ بينَنَا لا محالةَ فعَنْ صَخْرٍ الغَامِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»، قَالَ: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً، أَوْ جَيْشًا، بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تِجَارَةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ» (أبو داود والترمذي وحسنه، وقوَّاه ابن عبد البر، والمنذري، وابن حجر، والسخاوي) .
*رضَا الصانعِ بما رزقَهُ اللهُ تعالى: لقد قسَّمَ اللهُ الأرزاقَ بينَ الناسِ بشكلٍ متفاوتٍ، لكنْ مهمَا أُوتِيَ الإنسانُ مِن رزقٍ تجدُهُ لا يقنعُ برزقهِ على الرغمِ مِن كثرتهِ وصدقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال:«لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ»(متفق عليه).
والرضَا بمَا قُسِمَ أحدُ أهمِّ الأسبابِ المعينةِ على هدوءِ النفسِ، وتجنبِ الأمراضِ التي تأتِي بها الهمومُ والأحزانُ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (أحمد، إسناده صحيح) .
*إعطاءُ العاملينَ، والموظفينَ وغيرِهِم مِمَن يتعاملُ معهم في صنعتهِ حقوقَهُم كاملةً مِن غيرِ ظلمٍ ولا وكسٍ: لقد سبقَ الإسلامُ كافةَ القوانين والمواثيقِ في حفظِ حقوقِ العمالِ والخدمِ بغضِّ النظرِ عن ديانَتِهِم وجنسياتِهِم، وجعلَ هذا ركنًا رئيسًا في التوفيقِ في الصناعةِ، وحلولِ البركةِ فيها، ولذا وجهَنَا نبيُّنَا إلى المسارعةِ في استيفاءِ العاملين حقوقِهِم فعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» (ابن ماجه، وسنده صحيح)، وحذرَنَا دينُنَا أيضًا مِن المماطلةِ والتسويفِ وجعلَ آكلَ حقِّ الأجيرِ خصمًا لهُ يومَ القيامةِ فعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّه تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» (البخاري) .
*الاستعانةُ على أداءِ صنعتهِ ورعايتِهَا بالكتمانِ في بدايةِ عهدِهَا: حفظًا لهُ مِن العينِ والحسدِ مِن قِبلِ ضعافِ النفوسِ، فليسَ مِن الحكمةِ أنْ يجعلَ صنعتَهُ حديثَ المجالسِ، قال بعضُ الحكماءِ:«مَن كتمَ سرَّهُ كان الخيارُ إليهِ ومَن أفشاهُ كان الخيارُعليهِ، وكم مِن إظهارِ سرٍّ أراقَ دمَ صاحبِهِ ومنعَ مِن بلوغِ مأربِهِ ولو كتمَهُ كان مِن سطوتِهِ آمنًا ومِن عواقبِهِ سالمًا وبنجاحِ حوئجِهِ فائزًا» (فيض القدير)، وقد جاءَ في الأثرِ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:«اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ» (الطبراني وَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ سَلَامٍ الْعَطَّارُ، قَالَ الْعِجْلِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَّبَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ) .
وإلا فمِن الأسرارِ ما لا يُستغنَي فيهِ عن مطالعةِ صديقٍ، ومشورةِ ناصحٍ، فيتحرَّى لهُ مَن يأتمنهُ عليهِ ويستودعهُ إياه، والمسلمُ مأمورٌ أنْ يبذلَ النصيحةَ لكلِّ إنسانٍ فعَنْ جَرِيرٍ بنِ عبدِاللهِ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (متفق عليه) .
*خضوعُ الصناعةِ للجودةِ والرقابةِ والمتابعةِ: لقد سبقَ الإسلامُ كلَّ العلومِ اللاحقةِ عليهِ في وضعِ أساسِ الجودةِ ومعاييرِ الصلاحيةِ فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» (أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ)، وإتقانُ الصناعةِ يسمحُ للمنتجِ بالوفاءِ بحاجةِ البشرِ ويمكنُهُ مِن غزوِ الأسواقِ ورواجِ الصناعةِ على أكملِ وجهٍ وأفضلِ حالٍ.
ولم يكتفِ بذلك بل أمرَ بمراقبةِ ومتابعةِ تلك الصناعةِ، فأفضلُ الصناعاتِ هي التي تكونُ على عينِ صاحبِهَا في كافةِ مراحلِ الإنتاجِ؛ لأنَّهُ عندما تغيبُ الرقابةُ يحدثُ الخللُ والفسادٌ.
نسألُ اللهَ أنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ يوفقَ ولاةَ أُمورِنَا لمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: د / محروس رمضان حفظي عبد العال
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف